د. أحمد يعقوب المجدوبة
لا شك بأن للبيئة المجتمعية أثراً كبيراً وحاسماً في أداء المجتمع، مُمثّلاً بمؤسساته وأفراده. فقد تكون البيئة مُواتية وميسّرة للنجاح والتميز، وبالتالي ينجح المجتمع ويتميز في تحقيق ما يصبو إليه؛ وقد تكون مثبّطة ومُعيقة، فيفشل المجتمع في نيْل المرجو، رغم توافر الإمكانات المادية والقوى البشرية.
والأمثلة على ذلك كثيرة، إذ يعزو العديد من الدارسين تأخّر معظم الدول «النامية» إلى عامل البيئة أو «الثقافة». فهي دول تتمتع بموارد طبيعية وبشرية لا بأس بهما، ومع ذلك تخفق أيما إخفاق في إحداث النقلة المطلوبة في الأداء لتلتحق بركب الدول المتقدمة.
في كتابهما «أثر الثقافة» يسوق لورنس هاريسون وصموئيل هنتغتون غانا وكوريا الجنوبية مثالاً للتدليل على دور البيئة المجتمعية في تقرير مصير تقدم الدول أو تأخرها. يُبيّنان أن غانا وكوريا الجنوبية كانتا متشابهين إلى حد التطابق في الستينيات من القرن الماضي من حيث مؤشرات الأداء االمختلفة، والناتج القومي الإجمالي، وحجم الصادرات والمساعدات الخارجية.
وبعد ثلاثين سنة وجدت كوريا نفسها في مصاف الدول المتقدمة، وبقيت غانا على حالها. ويعزو الكاتبان هذه القفزة إلى العديد من العوامل، ومن أهمها «القيم» التي يتمتع بها الشعب الكوري، ومنها: عدم الإسراف، والإيمان بالاستثمار، والإعلاء من شأن العمل الجاد، والتمتع بالانضباط والنظام، وإعطاء الأولوية للتعليم، وغير ذلك من قيم.
بمعنى آخر، يمكننا أن نُسلّم أن الأداء الجمعي للأفراد في مجتمع أو دولة ما يؤثر تأثيراً واضحاً وملموساً على تقدم ذلك المجتمع أو تلك الدولة وعلى تأخرهما.
لكن السؤال المهم الذي يبرز هنا هو: ماذا عن أداء الفرد؟
هل لأداء الفرد أثر في تقدم مجتمعه أو تأخره؟
والحقيقة أن إثارة هذا السؤال أمر في غاية الأهمية بالنسبة لنا ولمجتمعنا في هذه المرحلة الدقيقة التي نمرّ بها، إذ من الملاحظ أن هذا السؤال غائب أو مغيب في خطابنا: الرسمي منه والشعبي، الجمعي منه والفردي.
من يتابع بدقة ما يكتب ويقال، وبالذات من قبل الأفراد في مجتمعنا، يجد أن الكل - بلا استثناء تقريباً - يتحدث دوماً عن أداء الغير وليس عن أدائه هو. وهذا الحديث مرتبط في أغلب الأحيان بالتذمّر والتبرّم والنقد والهجاء والتجريح، لأن «الآخر» أو «الغير» - وليس أنا - هو سبب فشلنا وتأخرنا وتخلفنا.
ماذا عنّي أنا؟؟ ماذا عنّا نحن؟؟ كأنني «أنا»، وكأننا «نحن» لا علاقة لنا بالأمر.
تَمعّن فيما يقال أو يكتب في الإعلام الرسمي والخاص، في البرامج الحوارية، في المقابلات، في الحوارات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي – وهنا الطامة الكبرى – تجد أن الفرد أخرج نفسه واستثنى أداءه من المعادلة.
كأنّه عارف زمانه وكأن الآخرين جهلة، كأنه المبدع البارع، والآخرين فاشلون، كأنه قديس، وكأن الآخرين شياطين.
وهذه ظاهرة سلبية تصل حد الوباء لا بد من أن تتوقف.
فالأداء الجمعي يبدأ وينتهي بالأداء الفردي، وإذا لم يتوقف الفرد عن التركيز على آداء الآخرين ناسياً أو متناسياً أداءه، فسوف نستمر في هذه الدوامة التي لا ولن تنتهي.
المطلوب هنا أن يُركّز الواحد فينا على أدائه وينسى أداء الآخرين. ماذا قدّمتُ أنا؟ ما هي نقاط قوتي ونقاط ضعفي؟ لماذا أخفقت هذه المرة؟ ماذا أفعل حتى أحسّن أدائي.
أعجبتني عبارة «كيف ترى قيادتي؟» عندما ظهرت أول مرّة، وما زالت تعجبني، رغم أن البعض أخذ يستخدمها رفعاً للعتب. فقد كان الكل - كما في حالة العلاقة بين الثقافة والتقدم التي شرحناها أعلاه - ينتقد السلوك المروري للآخرين، ولا ينظر إلى سلوكه هو. أتت تلك العبارة في اللحظة المناسبة لتُذكّرنا أن الحالة المرورية تبدأ ب «قيادتي» أنا وليس بقيادتهم هم.
أتمنى، من نفس المنطلق وبناءً على نفس المبدأ، أن يرفع الأفراد في مجتمعنا الآن، عند حديثهم عن التقدم والتأخر وعن وضع المجتمع وعن حسن الأداء وسوئه، شعار «كيف ترى أدائي؟»
فالأداء الفردي، المُشكِّل للأداء الجمعي، هو الأساس؛ وغيابه أو تغييبه هو جوهر المعضلة.